لا دليل يمنع المرأة المؤهلة من القضاء | ||
موضوع تولي المرأة منصب القضاء في دولنا الإسلامية من الأمور التي كثر فيها الجدل واحتدمت حولها المعارك، ولم ينته الأمر على الرغم من أن بعض البلاد العربية والإسلامية قد اتخذت خطوات فعلية في سبيل ترسيخ وضعية المرأة في السلك القضائي... وفي هذه المساحة نعرض لرأي فقهي بالمقام الأول؛ فصاحبه أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة، جامعة قطر، وعضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، والخبير بمجمع الفقه الإسلامي، وهو أ.د. علي القره داغي.
وفي هذا السياق يوضح القره داغي أن الفقهاء قد اختلفوا في حق تولي المرأة منصب القضاء على رأيين أساسيين:
منع مطلق
جمهور الفقهاء كما يبين القره داغي هم من ذهبوا إلى اشتراط الذكورة في القضاء، ومنع المرأة من تولي القضاء مطلقا، مستدلين بما يأتي:
أولا: ببعض الآيات الواردة في شأن القوامة، وداخل الأسرة، مثل قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء:34]. حيث قالوا: إن هذه الآية تدل على أن الرجال هم القوامون على النساء وإذا جاز أن تكون المرأة قاضية، انعكس الأمر فأصبحت هي القوّامة على الرجال. واستدلوا كذلك بقوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة: 228] وهذه الدرجة في نظر هؤلاء هي درجة القوامة على النساء في كل شيء.
ثانيا: استدلوا بالسنة المتمثلة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبي بكرة... قال: "لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". وهذا الحديث من وجهة نظرهم ظاهر في الدلالة على منع المرأة من الولاية التي تشمل القضاء عندهم.
ثالثا: القياس على الولاية العظمى.
رابعا: النظر إلى طبيعة المرأة، وما يجب لها من ستر، وما يعتريها من ضعف في حالات الحيض والنفاس والولادة ونحوها، كل ذلك يتعارض مع هذا المنصب الذي يحتاج إلى القوة والتفرغ الذهني والبدني. والخلاصة أن المصلحة تقتضي إبعادها عن المنصب في نظر هؤلاء.
تفنيد الأدلة
وقبل أن يعرض القره داغي للرأي الثاني أكد على أن أدلة أصحاب المنع المطلق يمكن الرد عليها بالآتي:
أولا: قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ). أوضح القره داغي أنه لا يدل بنصه على منع المرأة من تولي القضاء مطلقا إذا توافرت فيها الشروط المطلوبة، وذلك لأن هذه الآية تتحدث عن تنظيم البيت المسلم والأسرة، حيث يقودها الزوج الذي ينفق، والذي أعطاه الله تعالى قدرة على إدارة البيت، فهو له دوره، والزوجة لها دورها في البيت، واختلاف الأدوار هو اختلاف تنوع وتكامل وليس اختلاف تضاد وتعارض.
فسياق الآية ولحاقها ومضمونها -كما يوضح القره داغي- يدور حول توزيع الأدوار بين الزوج والزوجة، وبالتالي فليس في الآية عموم لجميع الأحوال والظروف، وأن لفظ الرجال ليس عاما يقصد به جميع أفراد الرجال في جميع الأحوال، بل يمكن أن تكون "ال" التعريف للعهد أو الجنس، وليس للاستغراق.
ويتابع: حتى لو كانت "ال" للعموم وحينئذ يقال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. نقول إن المحققين من الأصوليين نصوا على أن العموم يخصص بالقرائن، حيث جاء في البحر المحيط للزركشي: "قال الشيخ تقي الدين في شرح الإلمام: نص بعض كبار الأصوليين على أن العموم يخصص بالقرائن". والقرائن هنا كثيرة منها تتمة الآية (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ). ويستطرد: ومنها أنه لو سرنا على العموم، فهل للرجل الأجنبي قوامة على المرأة غير زوجته، وهل ينفق عليها وهل يؤدبها؟ وهل؟ وهل؟
وبالتالي يخلص القره داغي إلى أن القوامة في الآية هي الولاية داخل البيت، وهي ولاية الإدارة القائمة على التشاور والتراضي بنص آية أخرى تتحدث عن موضوع فصال الطفل مبينة أنه لا بد فيه من التشاور؛ حيث يقول تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [البقرة:233] فإذا كان فطام الولد لا ينبغي إلا بعد تراض وتشاور بين الزوجين فكيف بالأمور الأكبر منه؟
ثانيا: أما الدليل الثاني الذي يستدل به المانعون تولي المرأة منصب القضاء؛ وهو قوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فيشدد القره داغي على أنه "ليس فيه أي دليل على أن هذه الدرجة هي ولاية القضاء، بل الظاهر من سياقها ولحاقها ومضمونها أن هذه الدرجة هي درجة القوامة في البيت، وكون الطلاق والرد بيده". ويدلل القره داغي على ذلك بأن "هذه الجملة الكريمة جاءت في آية الطلاق حيث تقول: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة :228] ثم قالت الآية: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا) [البقرة:228]. ثم أثبتت الآية المساواة الكاملة للزوجين باستثناء درجة واحدة فقالت: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة:228] وهي درجة الرد أي الانفراد بحق الرجعة والرد حفاظا على كيان الأسرة".
ثالثا: أما بالنسبة للحديث الذي ذكره المانعون؛ فيؤكد القره داغي أنه صحيح بلا شك، لكن ظاهره أنه في الولاية العظمى والإمامة الكبرى، أي خليفة المسلمين، مع ملاحظة أن الرئاسة اليوم ليست فردية في الدول الديمقراطية، بل هي جماعية، موزعة على فصل السلطات.
رابعا: كذلك يلمح القره داغي إلى أن قياس القضاء على الإمامة العظمى قياس مع الفارق، فشتان بين المنصبين، فالفروق الجوهرية بينهما ظاهرة للعيان.
آراء المجيزين
أما من أجاز من الفقهاء تولي المرأة منصب القضاء فقد اختلفوا كما يبين القره داغي لفريقين:
الفريق الأول: يرى جواز إسناد القضاء مطلقا إلى المرأة، وهذا رأي ابن حزم الظاهري؛ كما في المحلى (8/528 ) ومروي عن المفسرين ابن جرير الطبري، كما ذكره الماوردي في أدب القاضي(1/626) والمغني لابن قدامة(11/380 ).
ويبين القره داغي أدلة ابن حزم ومن معه، حيث استدلوا بأن الآيات الكريمة، والسنة النبوية أثبتت ولاية المسلمين والمسلمات بعضهم لبعض، وأن الأصل هو المساواة بينهما إلا ما دل دليل خاص على استثناء المرأة منه، ولم يثبت ذلك عندهم إلا في الإمامة العظمى.
كذلك فقد استدلوا بأن حديث ابن عمر الصحيح المتفق عليه يثبت للمرأة المسئولية والولاية كما للرجل، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها..".
كذلك يبين القره داغي أن ابن حزم ومن معه قاسوا القضاء على الإفتاء الذي أجازه العلماء للمرأة بالإجماع، وأيضا اعتبروا أن الذكورة ليست وصفا مؤثرا حتى يتعلق بها صحة القضاء.
أما الفريق الثاني من المجيزين فهم السادة الحنفية (ما عدا زفر) وبعض المالكية، وقد ذهبوا إلى جواز وصحة قضائها فيما يجوز وتصح فيه شهادتها، أي في غير الحدود والدماء، قال الكسائي: "وأما الذكورة فليست هي شرط جواز التقليد في الجملة، لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة إلا أنها لا تقضي ب الحدود والقصاص".
وقد استدلوا على ذلك كما يوضح القره داغي بأن المرأة أصل للشهادة بنصوص القرآن والسنة وهناك تفصيل في مذهب الحنفية حول التولية والقضاء ليس محل ذكره هنا.
الخلاصة والترجيح
وفي النهاية يخلص القره داغي إلى أن هناك رأيا معتبرا داخل المذاهب الأربعة وهو رأي الحنفية وبعض المالكية بجواز قضاء المرأة في غير الحدود والقصاص، ورأيا معتبرا آخر لابن حزم، وهو مروي عن شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، ومن هنا فالقول إن قضاء المرأة ممنوع بالإجماع قول غير صحيح.
ومن هنا يرجح القره داغي القول بجواز أن تتولى المرأة القضاء إذا توفرت فيها مجموعة من الشروط الآتية:
1- أن تتوافر في المرأة المراد تقليدها القضاء الشروط المطلوبة في القضاة، من أهلية القضاء من رجحان العقل، والاتزان، وسلامة الحواس، ومن العدالة والاستقامة على طريق الحق، والقدرة على الوقوف أمام الباطل من خلال شخصية قوية متزنة، إضافة إلى العلم بالأحكام الشرعية؛ لأن القاضي الجاهل في النار، كما ورد ذلك في الحديث.
2- أن تهيأ للقاضيات الأجواء التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة.
3- ألا يكون هذا المنصب على حساب تربية أولادها والحقوق المتبادلة بينها وبين زوجها. وبهذا الشرط يرد على من يقول: إن النساء مشغولات بالتربية وحقوق الأزواج وذلك لأن هناك عددا من النساء العالمات اللاتي لسن مشغولات بالأزواج، ولا بالأولاد إما لأنهن وصلن إلى سن معينة، أو أنهن ليس لديهن هذه المشكلة أساسا. والمرأة في ذلك لا تختلف عن الرجال إذا أهملوا حقوق الأولاد والزوجات.
ويدلل القره داغي على رجحان هذا الاختيار بأنه "لا يوجد بالفعل دليل قطعي الدلالة والثبوت، ولا قطعي الدلالة فقط، على اشتراط الذكورة في القضاء، وبالتالي فيبقى الأمر على أصل الإباحة، لأن القضاء ليس من العبادات الشعائرية التي يشترط فيها وجود نص للإثبات، وإنما هي من الأشياء التي تعتبر معقولة المعاني وتقبل التعليل".
كذلك يؤكد القره داغي أن "القضاء اليوم ليس قضاء شخص واحد، ولا لدرجة واحدة، فدرجات التقاضي من حيث الحكم ثلاث ابتدائي، واستئناف، والتمييز(النقض)، وكل محكمة لا يحكم فيها قاض واحد؛ وإنما تتكون من ثلاثة أشخاص على الأقل، ويصدر القرار بالإجماع، أو الغالبية، وهذا يجبر كسر المرأة وضعفها عند من قال أنه سبب لعدم توليها القضاء.. إذن لو وجدت امرأة -حتى لو كانت رئيسة- فليس القرار قرارها وحدها، وإنما هو قرار اثنين أو أكثر".
والأهم من ذلك -حسب القره داغي- أن القرار لا يأخذ طابع البت، ولا ينتهي إلى الحسم والقطع إلا بعد إقرار محكمة التمييز (النقض)، ولا يعقل أن يكون القضاة في كل هذه الدرجات الثلاث من النساء القاضيات جميعا.
ولذلك يرى القره داغي أنه "من الأفضل أن يتشكل الأعضاء من الرجال والنساء، لا سيما في مسائل الحدود والدماء، وإذا كانت المحكمة الابتدائية من النساء فقط فينبغي أن تحول إلى المحكمة التالية التي لا تتكون كلها من النساء". |
Add this page to your favorite Social Bookmarking websites